في تاريخ التنمية والتحديث في بلدان الخليج العربي ثمة شخصيات عربية ساهمت بتخصصاتها المتنوعة في مختلف مناحي الحياة، ومنهم، على وجه التحديد، شخصيات من السودان الشقيق ارتبطت مع أهل المنطقة بعلاقات نموذجية امتدت منذ بواكير حقبة النهضة الخليجية وحتى اليوم، وما زالت آثارها خالدة وبصماتها واضحة وتحكي قصصاً عن مثابرتهم ونقاء ضمائرهم وسمو أخلاقهم وتفانيهم في ما أوكل إليهم من مهام،
فقد حل بالمنطقة الكثيرون منهم، إما بحثاً عن الرزق الحلال أو هرباً من القلاقل السياسية في وطنهم، أو استدعاء لخبراتهم وكفاءاتهم المشهودة. فكان هناك الطبيب والمهندس والمدرس والإداري والمصرفي والمترجم والقاضي والمستشار والإعلامي والرياضي، فأبلى كل في مجاله بلاء حسناً بكبرياء وتعفف وانكفاء عن التدخل في ما لا يخصه من أمور وقضايا داخلية. وكان منهم من عاد إلى وطنه مرفوع الرأس مشفوعاً بآيات التقدير والثناء والاحترام، ومنهم من بقي مع أسرته كمواطنين صالحين يخدمون التراب الذي احتضنهم والقلوب التي أحبتهم، دون أن ينسوا وطنهم الأم بما جاد به الله عليهم من نعم وخيرات.
ولعل ما رسخ روابط الشعبين، تلك المواقف التضامنية الأصيلة التي اتخذتها الحكومات السودانية المتعاقبة في ساعات المحن التي مرت على الخليج العربي، بدءاً من مشاركة مفرزة سودانية مقاتلة في حماية استقلال الكويت من مطامع النظام العراقي في مطلع ستينات القرن العشرين، وانتهاء بمشاركة قوات سودانية في التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية ضد التمرد الحوثي في اليمن. هذا ناهيك عن المشاريع التنموية العديدة في السودان التي أنفقت عليها صناديق التنمية الخليجية المختلفة لخير الشعب السوداني، فعززت روابط الشعبين أضعافاً.
والحقيقة أن الأسماء السودانية التي تحتفظ لها دولنا الخليجية بالعرفان لمساهمتها في مشاريع التنمية والتحديث والثقافة السابقة والحالية أكثر من أن تحصى، ومنها على سبيل المثال اللاحصري: البروفيسور علي إبراهيم شمو (أول وكيل لوزارة الإعلام في دولة الإمارات في السبعينات الميلادية زمن وزير إعلامها الأول الشيخ أحمد بن حامد)، المهندس السني بانقا (أول رئيس بلدية لمدينة أبوظبي)، المهندس أحمد عوض الكريم (مدير طرق ومجاري أبوظبي)، الدكتور عوض الحسن النور (القاضي بمحكمة الاستئناف بدبي)، الدكتور إدريس إبراهيم جميل (المستشار القانوني للعديد من الشركات الكبرى في السعودية وقطر) البروفيسور معز عمر بخيت (أستاذ علم المناعة بكلية الطب في جامعة الخليج العربي واستشاري أمراض الدماغ والجهاز العصبي بالمستشفى العسكري في مملكة البحرين)، عزالدين عمر أحمد موسى (العميد الأسبق لكلية الدراسات الإستراتيحية والمستقبلية بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية في الرياض)، الدكتور إبراهيم الطيب الريح (المساهم في تأسيس بنك فيصل الإسلامي بالتعاون مع الأمير محمد الفيصل بن عبدالعزيز)، الدكتورة سعاد الفاتح (أول عميدة لكلية التربية للبنات في الرياض)، صالح فرح (المستشار القانوني لإمارة أبوظبي وأحد الفقهاء المشاركين في كتابة دستور دولة الإمارات)، الدكتور محمد أحمد سالم (المستشار القانوني بإدارة الإعداد البرلماني في مجلس الأمة الكويتي)، إبراهيم يحيى الكوارتي (أول مدرب كرة سوداني في الإمارات)، أحمد الجوكر (أول مدرب عربي لكرة القدم في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية)، علاوة على العشرات من الصحفيين الذين عملوا في صحف السعودية والكويت وقطر والبحرين والإمارات، والعشرات من المدربين واللاعبين الذين أثروا الملاعب الخليجية، والمئات من المدرسين الشرفاء الذين ربوا الأجيال في مدارس وجامعات دول الخليج العربية.
في الثاني عشر من نوفمبر 2023، قال سمو الشيخ مكتوم بن محمد بن راشد آل مكتوم، النائب الأول لحاكم دبي/ نائب رئيس مجلس الوزراء/ وزير المالية عبر منصة إكس، إن دبي لا تنسى المخلصين، مشيراً بذلك إلى شخصية سودانية سخرت خبراتها لإنجاز العديد من مشاريع البنية التحتية والعمرانية في إمارة دبي وفق رؤية حاكمها الأسبق المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم. ومما قاله سموه: «نستذكر اليوم جهود كمال حمزة وإخلاصه ونشكر تفانيه في بناء نهضة دبي». فمن هو كمال حمزة هذا؟ وما علاقته بدبي والإمارات؟
بداية، لا بد من الإشارة إلى أن العلاقات والروابط الإماراتية ــ السودانية تميزت بفرادة وخصوصية نجد تجلياتها في مسارعة السودان بالاعتراف بدولة الإمارات فور قيامها في الثاني من ديسمبر عام 1971، واختيار المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه السودان لتكون أول دولة يزورها رسمياً بعد شهرين ونصف من توليه رئاسة الإمارات، وذلك في العشرين من فبراير 1972، وهي الزيارة التي رد عليها الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري بزيارة مماثلة في 23 أبريل من السنة ذاتها، فكان الأخير أول رئيس دولة عربية (من خارج منطقة الخليج) يزور الإمارات بعد استقلالها.
ومن شواهد محبة الشيخ زايد رحمه الله للسودان والسودانيين قرار سموه بأن تستثمر دولته الفتية في السودان في وقت مبكر من عمرها، وتحديداً في عام 1975 حينما تأسست أول شركة إماراتية ــ سودانية للاستثمار حملت اسم «شركة الإمارات والسودان للاستثمار»، وهي كيان تفرعت منه فيما بعد شركات استثمارية أخرى مثل «شركة الإمارات والبحر الأحمر للاستثمار». علماً بأن الاستثمارات والتمويلات التنموية الإماراتية في السودان استمرت بعد ذلك حتى بلغ حجمها أكثر من 30 مليار درهم. وقد رافق هذا، من قبل ومن بعد، استقطاب الإمارات لكوادر سودانية متنوعة التخصصات للعمل في مرافقها الحيوية، كالبلديات وأقسام المساحة والتخطيط ودوائر الزراعة وبعض إدارات الشرطة، بهدف بناء دولة عصرية تضاهي دول العالم. أحد هؤلاء الذين استقطبتهم الإمارات كان كمال حمزة، الذي تولى إدارة بلدية دبي في حقبة بدايات التنمية والتحديث، وتحديداً في الفترة من عام 1961 وحتى عام 1985، لينتقل بعدها للعمل كمستشار لحكومة دبي حتى تقاعده في عام 1992.
وبلدية دبي، التي تعد اليوم من أكبر المؤسسات الحكومية في دولة الإمارات والجهاز المحرك لنمو وتطور إمارة دبي في مختلف النواحي والأنشطة والأعمال والكيان الذي تمكن عبر سنوات عمره من التوسع والنمو لجهة مهامها ومسؤولياتها وهيكلها التنظيمي والإداري حتى غدت مسؤولة عن 40 إدارة ونحو 200 قسم و11 ألف موظف وعامل، تشكل نواتها في عام 1954 بكادر فني لم يتجاوز سبعة موظفين، وفي 28 فبراير من عام 1957 صدر مرسوم من الحاكم آنذاك سمو الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم رحمه الله بتأسيس المجلس البلدي لإمارة دبي، وقرارات بتعيين 23 شخصية من أعيان الإمارة وتجارها ووجهائها كأعضاء في المجلس بصلاحيات ومهام محدودة شملت مهام الحفاظ على جمالية ونظافة مدينة دبي ورعاية شؤونها الصحية والعمرانية والتخطيطية وتقديم المقترحات ذات الصلة.، وفي عام 1961 أصدر الشيخ راشد أمراً محلياً بتأسيس مجلس بلدية دبي الذي أخذ على عاتقه تنفيذ مراحل تطويرية وتنموية متقدمة نسبياً. أما العام 1980 فقد شهد صدور مرسوم بزيادة أعضاء المجلس البلدي إلى 32 عضواً، وتعيين سمو الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم رحمه الله رئيساً للجهاز.
ومنذ تأسيسه، توالى على إدارة بلدية دبي عدد من الشخصيات، كان أولها السيد عبدالله بن جمعان الذي تقلد منصب سكرتير عام البلدية ما بين عامي 1954 و1957، وخلفه السيد علي البستاني، الذي كان يشغل من قبل منصب مساعد الوكيل العربي المعتمد للحكومة البريطانية في دبي، فظل ممسكاً بالمنصب من عام 1957 وحتى عام 1961، وهو العام الذي أمر فيه الحاكم الشيخ راشد بن سعيد بتغيير مسمى هذه الوظيفة من «سكرتير عام البلدية» إلى «مدير عام البلدية»، ليشغلها بتسميتها الجديدة مذاك وحتى عام 1985 السيد كمال حمزة.
ولد كمال حمزة حسن أبوالمعالي في جزيرة «توتي» التي تقع عند ملتقى النيلين الأزرق والأبيض وتتوسط المدن الثلاث المكونة للعاصمة الخرطوم (أم درمان والخرطوم والخرطوم بحري)، وأنهى تعليمه النظامي الأولي والمتوسط بمدرسة «بيت المال» في أم درمان، وتعليمه الثانوي بمدرسة «خور طقت» العليا القومية الراقية بمدينة الأبيض التي تأسست في زمن الإدارة المصرية ــ البريطانية المشتركة للسودان. بعد إنهائه المرحلة الثانوية التحق حمزة بمعهد المعلمين في «بخت الرضا» (الواقعة ببلدة الدويم) الذي كان يعد صرحاً تربوياً عالياً لتخريج وتدريب وإعداد المناهج والمدرسين لكافة مراحل التعليم، قبل أن يتم تحويلها إلى «جامعة بخت الرضا» في عام 1997. بعد تخرجه من معهد المعلمين وعمله لبعض الوقت في سلك التدريس، قرر صاحبنا أن يلتحق بكلية العلوم الإدارية في جامعة الخرطوم، وما إن حصل على درجة البكالوريوس حتى غادر السودان إلى بريطانيا حيث التحق هناك بجامعة مانشستر التي منحته شهادة الماجستير في الإدارة العامة، ليعود إلى وطنه ويعمل لعدة سنوات ضابطاً إدارياً بوزارة الحكم المحلي.
العمل في بلدية دبي
المنعطف الأبرز في حياته كان في مطلع الستينات، حينما تم انتدابه للعمل في إمارة دبي. والحقيقة أن ذلك الانتداب لم يأتِ من فراغ وإنما جاء من منطلق رغبة حكومة دبي في تأسيس بلديتها الوليدة على أحدث النظم الإدارية، معطوفاً على حقيقة أن أفضل نظام للخدمة المدنية أسسه الإنجليز قبل خروجهم من البلاد العربية كان ذلك الذي تركوه في السودان، وكان كمال حمزة أحد مخرجاته.
وإبان إدارته التنفيذية لبلدية دبي، أُتيحت له فرصة الابتعاث على نفقة حكومة دبي إلى الخارج لرؤية عمل البلديات هناك والاستفادة من تجاربها وتطبيق ما هو مناسب لدبي، فزار وتفقد أعمال بلديتَي ساوثهامتون ونيوكاسيل بإنجلترا، وبلديات لوس أنجلوس ودينفر ونيوأورليانز في الولايات المتحدة. كما أن إنجازاته في دبي استرعت انتباه أصحاب السمو حكام الإمارات فحظي بمحبتهم وتقديرهم، فكان مثلاً من ضمن أكثر الخبراء العرب مكانة لدى رئيس الدولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، وهو من ساعد كثيراً في اختيار وجلب أفضل الكفاءات السودانية للعمل بدولة الإمارات في مختلف الوظائف.
ومن الأمور التي ارتبطت باسمه، بوصفه مديراً لبلدية دبي، تغيير نظام السير في مدينة دبي من اليسار إلى اليمين ابتداء من الأول من سبتمبر 1966، وإشرافه على العملية بمساعدة الجهات الأخرى المختصة حتى تحققت بنجاح ودون حوادث تذكر، وهو ما جعل حكومة وطنه الأم تستعين بخبرته في عام 1973 من أجل عمل مشابه في الخرطوم.
رئيس الجالية السودانية في الإمارات
من جانب آخر، أولى الرجل اهتماماً كبيراً، إبان عمله في دبي، بمواطنيه المغتربين في الإمارات، فكان يساعدهم ويتفقد أحوالهم ويذلل العقبات التي تعترضهم من موقعه كرئيس للجالية السودانية بدولة الإمارات.
في عام 1992، تقاعد عن عمله البلدي، لكنه ظل مقيماً في دولة الإمارات معززاً مكرماً بعد حصوله على جنسيتها ومنحه منزلاً أنيقاً تقديراً لخدماته الجليلة ومساهماته المشهودة.
وأخيراً، فإن كمال حمزة، لم ينسَ مسقط رأسه (جزيرة توتي) ولا وطنه السودان، فبنى في الأولى مدرسة كبرى تحمل اسمه، وبنى في أم درمان «مدرسة أم درمان الأهلية»، وبنى في عطبرة «مدرسة الشيخ حمد ود أم مريوم» الثانوية للبنات، وشيد في الخرطوم «برج حمزة بلازا» و«مستشفى الوالدين الخيري لطب العيون»، وأسس العديد من المساجد ودور تحفيظ القرآن ومراكز غسل الكلى، وحفر آبار مياه الشرب في مختلف المدن السودانية. أما خارج السودان فاشتملت أعماله الخيرية على بناء مسجد ومدرسة للأيتام في بنغلاديش، و«مدرسة حمزة لتحفيظ القرآن» في دبي، ومطبعة إسلامية في إريتريا.
فقد حل بالمنطقة الكثيرون منهم، إما بحثاً عن الرزق الحلال أو هرباً من القلاقل السياسية في وطنهم، أو استدعاء لخبراتهم وكفاءاتهم المشهودة. فكان هناك الطبيب والمهندس والمدرس والإداري والمصرفي والمترجم والقاضي والمستشار والإعلامي والرياضي، فأبلى كل في مجاله بلاء حسناً بكبرياء وتعفف وانكفاء عن التدخل في ما لا يخصه من أمور وقضايا داخلية. وكان منهم من عاد إلى وطنه مرفوع الرأس مشفوعاً بآيات التقدير والثناء والاحترام، ومنهم من بقي مع أسرته كمواطنين صالحين يخدمون التراب الذي احتضنهم والقلوب التي أحبتهم، دون أن ينسوا وطنهم الأم بما جاد به الله عليهم من نعم وخيرات.
ولعل ما رسخ روابط الشعبين، تلك المواقف التضامنية الأصيلة التي اتخذتها الحكومات السودانية المتعاقبة في ساعات المحن التي مرت على الخليج العربي، بدءاً من مشاركة مفرزة سودانية مقاتلة في حماية استقلال الكويت من مطامع النظام العراقي في مطلع ستينات القرن العشرين، وانتهاء بمشاركة قوات سودانية في التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية ضد التمرد الحوثي في اليمن. هذا ناهيك عن المشاريع التنموية العديدة في السودان التي أنفقت عليها صناديق التنمية الخليجية المختلفة لخير الشعب السوداني، فعززت روابط الشعبين أضعافاً.
والحقيقة أن الأسماء السودانية التي تحتفظ لها دولنا الخليجية بالعرفان لمساهمتها في مشاريع التنمية والتحديث والثقافة السابقة والحالية أكثر من أن تحصى، ومنها على سبيل المثال اللاحصري: البروفيسور علي إبراهيم شمو (أول وكيل لوزارة الإعلام في دولة الإمارات في السبعينات الميلادية زمن وزير إعلامها الأول الشيخ أحمد بن حامد)، المهندس السني بانقا (أول رئيس بلدية لمدينة أبوظبي)، المهندس أحمد عوض الكريم (مدير طرق ومجاري أبوظبي)، الدكتور عوض الحسن النور (القاضي بمحكمة الاستئناف بدبي)، الدكتور إدريس إبراهيم جميل (المستشار القانوني للعديد من الشركات الكبرى في السعودية وقطر) البروفيسور معز عمر بخيت (أستاذ علم المناعة بكلية الطب في جامعة الخليج العربي واستشاري أمراض الدماغ والجهاز العصبي بالمستشفى العسكري في مملكة البحرين)، عزالدين عمر أحمد موسى (العميد الأسبق لكلية الدراسات الإستراتيحية والمستقبلية بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية في الرياض)، الدكتور إبراهيم الطيب الريح (المساهم في تأسيس بنك فيصل الإسلامي بالتعاون مع الأمير محمد الفيصل بن عبدالعزيز)، الدكتورة سعاد الفاتح (أول عميدة لكلية التربية للبنات في الرياض)، صالح فرح (المستشار القانوني لإمارة أبوظبي وأحد الفقهاء المشاركين في كتابة دستور دولة الإمارات)، الدكتور محمد أحمد سالم (المستشار القانوني بإدارة الإعداد البرلماني في مجلس الأمة الكويتي)، إبراهيم يحيى الكوارتي (أول مدرب كرة سوداني في الإمارات)، أحمد الجوكر (أول مدرب عربي لكرة القدم في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية)، علاوة على العشرات من الصحفيين الذين عملوا في صحف السعودية والكويت وقطر والبحرين والإمارات، والعشرات من المدربين واللاعبين الذين أثروا الملاعب الخليجية، والمئات من المدرسين الشرفاء الذين ربوا الأجيال في مدارس وجامعات دول الخليج العربية.
في الثاني عشر من نوفمبر 2023، قال سمو الشيخ مكتوم بن محمد بن راشد آل مكتوم، النائب الأول لحاكم دبي/ نائب رئيس مجلس الوزراء/ وزير المالية عبر منصة إكس، إن دبي لا تنسى المخلصين، مشيراً بذلك إلى شخصية سودانية سخرت خبراتها لإنجاز العديد من مشاريع البنية التحتية والعمرانية في إمارة دبي وفق رؤية حاكمها الأسبق المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم. ومما قاله سموه: «نستذكر اليوم جهود كمال حمزة وإخلاصه ونشكر تفانيه في بناء نهضة دبي». فمن هو كمال حمزة هذا؟ وما علاقته بدبي والإمارات؟
بداية، لا بد من الإشارة إلى أن العلاقات والروابط الإماراتية ــ السودانية تميزت بفرادة وخصوصية نجد تجلياتها في مسارعة السودان بالاعتراف بدولة الإمارات فور قيامها في الثاني من ديسمبر عام 1971، واختيار المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه السودان لتكون أول دولة يزورها رسمياً بعد شهرين ونصف من توليه رئاسة الإمارات، وذلك في العشرين من فبراير 1972، وهي الزيارة التي رد عليها الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري بزيارة مماثلة في 23 أبريل من السنة ذاتها، فكان الأخير أول رئيس دولة عربية (من خارج منطقة الخليج) يزور الإمارات بعد استقلالها.
ومن شواهد محبة الشيخ زايد رحمه الله للسودان والسودانيين قرار سموه بأن تستثمر دولته الفتية في السودان في وقت مبكر من عمرها، وتحديداً في عام 1975 حينما تأسست أول شركة إماراتية ــ سودانية للاستثمار حملت اسم «شركة الإمارات والسودان للاستثمار»، وهي كيان تفرعت منه فيما بعد شركات استثمارية أخرى مثل «شركة الإمارات والبحر الأحمر للاستثمار». علماً بأن الاستثمارات والتمويلات التنموية الإماراتية في السودان استمرت بعد ذلك حتى بلغ حجمها أكثر من 30 مليار درهم. وقد رافق هذا، من قبل ومن بعد، استقطاب الإمارات لكوادر سودانية متنوعة التخصصات للعمل في مرافقها الحيوية، كالبلديات وأقسام المساحة والتخطيط ودوائر الزراعة وبعض إدارات الشرطة، بهدف بناء دولة عصرية تضاهي دول العالم. أحد هؤلاء الذين استقطبتهم الإمارات كان كمال حمزة، الذي تولى إدارة بلدية دبي في حقبة بدايات التنمية والتحديث، وتحديداً في الفترة من عام 1961 وحتى عام 1985، لينتقل بعدها للعمل كمستشار لحكومة دبي حتى تقاعده في عام 1992.
وبلدية دبي، التي تعد اليوم من أكبر المؤسسات الحكومية في دولة الإمارات والجهاز المحرك لنمو وتطور إمارة دبي في مختلف النواحي والأنشطة والأعمال والكيان الذي تمكن عبر سنوات عمره من التوسع والنمو لجهة مهامها ومسؤولياتها وهيكلها التنظيمي والإداري حتى غدت مسؤولة عن 40 إدارة ونحو 200 قسم و11 ألف موظف وعامل، تشكل نواتها في عام 1954 بكادر فني لم يتجاوز سبعة موظفين، وفي 28 فبراير من عام 1957 صدر مرسوم من الحاكم آنذاك سمو الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم رحمه الله بتأسيس المجلس البلدي لإمارة دبي، وقرارات بتعيين 23 شخصية من أعيان الإمارة وتجارها ووجهائها كأعضاء في المجلس بصلاحيات ومهام محدودة شملت مهام الحفاظ على جمالية ونظافة مدينة دبي ورعاية شؤونها الصحية والعمرانية والتخطيطية وتقديم المقترحات ذات الصلة.، وفي عام 1961 أصدر الشيخ راشد أمراً محلياً بتأسيس مجلس بلدية دبي الذي أخذ على عاتقه تنفيذ مراحل تطويرية وتنموية متقدمة نسبياً. أما العام 1980 فقد شهد صدور مرسوم بزيادة أعضاء المجلس البلدي إلى 32 عضواً، وتعيين سمو الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم رحمه الله رئيساً للجهاز.
ومنذ تأسيسه، توالى على إدارة بلدية دبي عدد من الشخصيات، كان أولها السيد عبدالله بن جمعان الذي تقلد منصب سكرتير عام البلدية ما بين عامي 1954 و1957، وخلفه السيد علي البستاني، الذي كان يشغل من قبل منصب مساعد الوكيل العربي المعتمد للحكومة البريطانية في دبي، فظل ممسكاً بالمنصب من عام 1957 وحتى عام 1961، وهو العام الذي أمر فيه الحاكم الشيخ راشد بن سعيد بتغيير مسمى هذه الوظيفة من «سكرتير عام البلدية» إلى «مدير عام البلدية»، ليشغلها بتسميتها الجديدة مذاك وحتى عام 1985 السيد كمال حمزة.
ولد كمال حمزة حسن أبوالمعالي في جزيرة «توتي» التي تقع عند ملتقى النيلين الأزرق والأبيض وتتوسط المدن الثلاث المكونة للعاصمة الخرطوم (أم درمان والخرطوم والخرطوم بحري)، وأنهى تعليمه النظامي الأولي والمتوسط بمدرسة «بيت المال» في أم درمان، وتعليمه الثانوي بمدرسة «خور طقت» العليا القومية الراقية بمدينة الأبيض التي تأسست في زمن الإدارة المصرية ــ البريطانية المشتركة للسودان. بعد إنهائه المرحلة الثانوية التحق حمزة بمعهد المعلمين في «بخت الرضا» (الواقعة ببلدة الدويم) الذي كان يعد صرحاً تربوياً عالياً لتخريج وتدريب وإعداد المناهج والمدرسين لكافة مراحل التعليم، قبل أن يتم تحويلها إلى «جامعة بخت الرضا» في عام 1997. بعد تخرجه من معهد المعلمين وعمله لبعض الوقت في سلك التدريس، قرر صاحبنا أن يلتحق بكلية العلوم الإدارية في جامعة الخرطوم، وما إن حصل على درجة البكالوريوس حتى غادر السودان إلى بريطانيا حيث التحق هناك بجامعة مانشستر التي منحته شهادة الماجستير في الإدارة العامة، ليعود إلى وطنه ويعمل لعدة سنوات ضابطاً إدارياً بوزارة الحكم المحلي.
العمل في بلدية دبي
المنعطف الأبرز في حياته كان في مطلع الستينات، حينما تم انتدابه للعمل في إمارة دبي. والحقيقة أن ذلك الانتداب لم يأتِ من فراغ وإنما جاء من منطلق رغبة حكومة دبي في تأسيس بلديتها الوليدة على أحدث النظم الإدارية، معطوفاً على حقيقة أن أفضل نظام للخدمة المدنية أسسه الإنجليز قبل خروجهم من البلاد العربية كان ذلك الذي تركوه في السودان، وكان كمال حمزة أحد مخرجاته.
وإبان إدارته التنفيذية لبلدية دبي، أُتيحت له فرصة الابتعاث على نفقة حكومة دبي إلى الخارج لرؤية عمل البلديات هناك والاستفادة من تجاربها وتطبيق ما هو مناسب لدبي، فزار وتفقد أعمال بلديتَي ساوثهامتون ونيوكاسيل بإنجلترا، وبلديات لوس أنجلوس ودينفر ونيوأورليانز في الولايات المتحدة. كما أن إنجازاته في دبي استرعت انتباه أصحاب السمو حكام الإمارات فحظي بمحبتهم وتقديرهم، فكان مثلاً من ضمن أكثر الخبراء العرب مكانة لدى رئيس الدولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، وهو من ساعد كثيراً في اختيار وجلب أفضل الكفاءات السودانية للعمل بدولة الإمارات في مختلف الوظائف.
ومن الأمور التي ارتبطت باسمه، بوصفه مديراً لبلدية دبي، تغيير نظام السير في مدينة دبي من اليسار إلى اليمين ابتداء من الأول من سبتمبر 1966، وإشرافه على العملية بمساعدة الجهات الأخرى المختصة حتى تحققت بنجاح ودون حوادث تذكر، وهو ما جعل حكومة وطنه الأم تستعين بخبرته في عام 1973 من أجل عمل مشابه في الخرطوم.
رئيس الجالية السودانية في الإمارات
من جانب آخر، أولى الرجل اهتماماً كبيراً، إبان عمله في دبي، بمواطنيه المغتربين في الإمارات، فكان يساعدهم ويتفقد أحوالهم ويذلل العقبات التي تعترضهم من موقعه كرئيس للجالية السودانية بدولة الإمارات.
في عام 1992، تقاعد عن عمله البلدي، لكنه ظل مقيماً في دولة الإمارات معززاً مكرماً بعد حصوله على جنسيتها ومنحه منزلاً أنيقاً تقديراً لخدماته الجليلة ومساهماته المشهودة.
وأخيراً، فإن كمال حمزة، لم ينسَ مسقط رأسه (جزيرة توتي) ولا وطنه السودان، فبنى في الأولى مدرسة كبرى تحمل اسمه، وبنى في أم درمان «مدرسة أم درمان الأهلية»، وبنى في عطبرة «مدرسة الشيخ حمد ود أم مريوم» الثانوية للبنات، وشيد في الخرطوم «برج حمزة بلازا» و«مستشفى الوالدين الخيري لطب العيون»، وأسس العديد من المساجد ودور تحفيظ القرآن ومراكز غسل الكلى، وحفر آبار مياه الشرب في مختلف المدن السودانية. أما خارج السودان فاشتملت أعماله الخيرية على بناء مسجد ومدرسة للأيتام في بنغلاديش، و«مدرسة حمزة لتحفيظ القرآن» في دبي، ومطبعة إسلامية في إريتريا.